فصل: مسألة طلقها فحلفت بالعتق ألا تقبل منه منفعة فكسا جاريتها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة



.مسألة ابتاع من رجل سلعة ثم سأله أن يضع عنه عشرة دنانير:

وسئل عمن ابتاع من رجل سلعة ثم سأله أن يضع عنه عشرة دنانير فقال له البائع: الله يعلم أني لا أضع لك أله مخرج؟ فقال:
نعم لو كفر عن يمينه، قيل له: لو كفر عن يمينه؟! قال: نعم يطعم عشرة مساكين.
قال محمد بن أحمد: ظاهر قول البائع الإخبار عن الله تعالى بأنه يعلم أنه لا يضع له وهو قول علمه عز وجل بألا يعلم إذ لا يدري هل يضع عنه أم لا يضع فإن كان سبق في علم الله تعالى أنه يضع عنه فهو عالم أنه يضع عنه وإن كان سبق في علمه أنه لا يضع عنه فهو عالم أنه لا يضع عنه، إلا أنه لما قصد البائع بما قاله من هذا الامتناع من الوضيعة احتمل عنده أن يكون قصد بذلك اليمين بأن يجعل يعلم صفة لله بمعنى عالم، فتكون إرادته الله العالم أقسم به أني لا أضع لك، فأمره بالكفارة احتياطا إن لم يضع عنه، فإن كان أراد اليمين وقعت الكفارة في موضعها، وإن كان أراد الإخبار ولم يرد اليمين رجا أن تكون الكفارة تكفر عنه الإثم في أن قال على الله ما لا يعلم هذا وجه هذه الرواية عنده، والله أعلم.
وقد روي عن سحنون فيمن قال علم الله إن فعلت كذا فقال: إن أراد العلم فهو كالحالف بصفة من صفات الله تعالى، وإن لم يرد العلم فلا شيء عليه، يريد بذلك أنه أراد فعلم العلم، فكأنه قال: وعلم الله، وقد يحذف واو القسم، وإن لم يرد العلم فقوله إخبار لا يلزمه به شيء وهو يريد ما قلناه، والله أعلم.

.مسألة حلف وقال إن شاء الله ينوي به الاستثناء:

قال أشهب: وسئل مالك عن قول ابن عمر: من حلف فقال إن شاء الله فقد استثنى، فقال: إنا لنقول غير هذا نقول إذا حلف وقال: إن شاء الله ينوي به الاستثناء فذلك له ولا حنث عليه، وإن كان إنما قال إن شاء الله لهجا بذلك مثل قول الله عز وجل: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا} [الكهف: 23] {إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف: 24]، ومثل قوله: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [الفتح: 27]، فليس ذلك باستثناء ولا يغني عنه ذلك شيئا.
قال محمد بن أحمد: قول مالك: إن قول الرجل إذا حلف وقال إن شاء الله لا يكون استثناء إلا أن ينوي به الاستثناء ويقصد به إلى حل اليمين صحيح ليس مما يختلف فيه، لقول النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إنما الأعمال بالنيات» ولا يمكن أن يقول ابن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خلاف ذلك، فقول مالك: إنا لنقول غير ذلك معناه إنا لنقول ما هو أفسر من قوله وأبين من كلامه لما جاء من إجماله، والله أعلم.

.مسألة كان عليه مشي إلى بيت الله فمشى حتى انتهى إلى مكة وقد فاته الحج:

ومن كتاب الحج:
مسألة وسئل مالك عن رجل كان عليه مشي إلى بيت الله فمشى في حج حتى انتهى إلى مكة وقد فاته الحج فطاف بالبيت وركع ركعتين وسعى بين الصفا والمروة فصار حجه عمرة فحل أقد انقضى مشيه؟.
فقال: نعم قد انقضى مشيه وعليه حج قابل، قلت له: أرأيت إذا حج قابلا أعليه أن يمشي من مكة إلى منى حتى يقضي حجه؟ قال: ليس عليه ذلك، قيل له: إنه قد كان مشى في حج ففاته الحج، فقال:
قد كان مشى في حج وليس ذلك عليه فإذا فاته الحج فقد صار عمرة وقضى مشيه ولا شيء عليه فيما يستقبل.
قال محمد بن أحمد: هذا مثل قوله في المدونة إنه إذا كان عليه مشي فجعله في حج ففاته الحج أنه يحمل العمرة ويجزيه المشي ويحج عاما قابلا راكبا، وليس عليه أن يمشي بقية مناسك الحج التي فاتته بخلاف إذا نذر المشي في حج، هذا عليه إذا فاته الحج فحل بعمرة ثم حج عاما قابلا راكبا أن يمشي بقية مناسك الحج التي فاتته. وقال فضل: القياس أن يكون عليه إذا رجع أن يمشي ما بقي عليه من المناسك إذا جعل مشيه في حج ففاته الحج وإن كان لم ينذره في حج، وقوله عندي صحيح إذ لا اختلاف في وجوب مشي المناسك عليه إذا جعل مشيه في حج وإن كان لم ينذره في حج، فإذا وجب عليه أن يمشي جميع مناسك الحج لجعله مشيه فيه وجب إذا فاتته أن يقضيها ماشيا، كما لو أن نذر. وقد قال بعض أهل النظر: إن القياس على أصل ابن القاسم في الحج الثالث من المدونة ألا يجزئ شيء لأنه متحلل بعمل العمرة وليست عنده بعمرة صحيحة. قال: لحلف فيه قول ابن القاسم يريد في المدونة لأنه قد نص فيها أن الذي يصير إلى العمرة وتحلل بعمرة على ما قاله مالك في هذه الرواية من أن حجه بصير قال بما في الذي يجامع بعد أن فاته الحج أن لا عمرة عليه وكان القياس على قوله أن يصير عمرة أن يكون عليه قضاء العمرة إذا وطئ بعد أن فاته الحج. وقال أيضا في الذي يتعدى الميقات فأحرم بالحج بعدما تعداه ثم فاته الحج أنه لا دم عليه لتعديه الميقات وكان القياس أيضا على قوله إن حجه يصير عمرة أن يكون عليه الدم لترك الميقات كمن جاوز الميقات ثم أحرم بعمرة وإلى هذه المسألة من لحج الثالث أشار بعض أهل النظر والله أعلم. ووجه ما ذهب إليه أنه لما كان ما ترك من الإحرام من الميقات لا يعتبر فيه فيلزمه فيه الهدي إذ قد فاته الحج الذي أحرم به فذلك لا يجزيه المشي الذي مشى في إحرامه بالحج إذ قد فاته الحج، والله أعلم.

.مسألة حلف بالمشي من الأندلس إلى مكة:

وسئل مالك عمن حلف بالمشي من الأندلس أترى له سعة في ركوب البحر؟ قال: نعم كيف يصنع إلا ذلك لابد له منه.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال لأن الذي يحلف بالمشي إلى مكة إنما تقع يمينه على مشي ما يمكن مشيه من الطريق الناجد كمن نذر صوم سنة بعينها أو صلاة يوم بعينه إنما يصح نذره على ما يصح صيامه من الأيام وصلاته من الأزمان وليس عليه أن يحلق في طريقه حتى يقل ركوبه للبحر، بل لا يسوغ له ذلك لأنه يتعب نفسه فيما لا طاعة فيه ولا قربة، إذا لو نذر رجل بالمدينة أن يمشي إلى مكة على الشام أو على العراق أو من الأندلس على غانة وشبهها لم يلزمه ذلك ولا ساغ له، ولو أن رجلا أراد أن يحلق في طريقه إلى المسجد لتكثر خطاه لما جاء من الثواب في ذلك لكان مخطئا في فعله وبالله التوفيق.

.مسألة حلف الناسي:

وسألت امرأة فقالت: إن ابني استخبأني دراهم، ثم إنه سألها مني فرددتها عليه فأخذها ثم رد علي منها خمسة دراهم فخبأتها في خماري فلما كان بعد ذلك طرحت الخمار عني وأقبلت على عمل بيتي، فجاءني ابني فقال: هات الدراهم الخمسة التي استخبأتك، فقالت له: ما استخبأتني شيئا إلا التي رددت عليك، فقال: بل رددت علي الدنانير والدراهم ثم استخبأتك بعد ذلك خمسة دراهم، فقالت: لا والله، فقال: انظري إن كنت خبأتها في الفراش أو الخصفة، فقلت: علي المشي إلى مكة إن كنت خبأتها في فراش أو خصفة أو شيء، ثم ذهبت أطلب فوجدتها في خماري كما جعلتها فذكرتها، فما ترى علي؟ فقال لها: أليس إنما حلفت ناسية لإعطائه إياك؟ قالت: بلى، فقال: فامش إلى بيت الله، فإن كنت لا تقدرين فامش واهدي، وليس عليك عجلة حتى تجدي وتقوي على ذلك، وأرجو ألا يكون عليك بأس إن شاء الله أبشري، قال لنا: وما هدي مثل هذه؟ قال: أرى هديها شاة، ثم قال: كان يقال: «إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم إنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم»، لئن دخلت هذه السوداء الجنة فما ضرها سوادها، خافت يمينها هذا الخوف وأخرى أهيأ منها لا تخاف خوفها.
قال محمد بن أحمد: قال لها أليس إنما حلفت ناسية لإعطائه إياك، فقالت: بلى، من أجل ما رأى بها من الفزع لأنها أتت وهي ترعد على ما ذكر في هذه الحكاية في غير هذا الموضع مخافة أن تكون قد وقعت من الإثم والحرج فيما لا مخلص لها منه، ويدل على ذلك قوله خافت يمينها هذا الخوف فلم يكن عليها في يمينها إثم ولا كفارة لأنها كانت لغوا إذ حلفت بالله تعالى ناسية لإعطائها إياها الخمسة الدراهم، ووجب عليها المشي إلى بيت الله إذ لا يكون اللغو في المشي ولا فيما سوى اليمين بالله تعالى. وقوله: فإن كنت لا تقدرين فاركبي واهدي، معناه فاركبي إذا عجزت عن المشي بعد أن تمشي ما قدرت عليه واهدي، ولم يأمرها أن ترجع ثانية فيحتمل أن يكون رأى من حالها أنها لا تقدر أن تمشي الطريق كله في مرتين، ولذلك لم يأمرها بالرجوع ثانية إذ لم يختلف قوله فيما علمت أن الحالف بالمشي يلزمه الرجوع ثانية لمشي ما عجز عنه فركبه، ويرى عليه الهدي مع ذلك لتفريق المشي، وأهل المدينة سواه يرون عليه الرجوع ثانية دون الهدي، وأهل مكة يرون عليه الهدي دون الرجوع، ومن أهل العلم من لم يوجب عليه الهدي ولا الرجوع، وقد روي ذلك عن النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ، وقوله: وليس عليك عجلة حتى تجدي وتقوي، تخفيف منه عليها لما رأى بها من الضعف على القول بأن الأمر لا يقتضي الفور فإن الحج على التراخي، ولتخفيفه عنها في هذا. قال لها: وأرجو أن لا يكون عليك بأس، وقال لها: أبشري لما رجاه لها من النجاة والخير لشدة ما رآه بها من الخوف، وبالله التوفيق.

.مسألة طلقها فحلفت بالعتق ألا تقبل منه منفعة فكسا جاريتها:

ومن كتاب العتق:
مسألة وسئل عن امرأة طلقها زوجها فحلفت بالعتق ألا تقبل منه منفعة فندم وخدمته جاريتها وقامت عليه، فلما أراد الخروج كسا جارية لها ثوبا وأعطاها دريهمات، فقال: لا أرى أن تقبل ذلك وأرى أن ترده عليه لأن تلك الكسوة. هي تنتفع بها تكف عنها كسوة خادمها، وتلك الدريهمات تنتفع بها خادمها وتقوى بها على عملها فلا أرى لها أن تقبل ذلك وأرى أن ترده عليه فإن كان غائبا فلتبعث به إليه، وإن هلك الرجل قبل أن تبعث به إليه ولم تقبله فلا شيء عليها، فإن كان ذلك أمرا قد فات وقبلته فأرى أن تدين في ذلك، فإن قالت: لم أرد هذا، وليس هذا الذي أردت ولم أرد خادمي ولا عبدي رأيت أن تنوى فتحلف على نيتها ولا حنث عليها إلا أن تكون انتفعت بذلك، فإن كانت انتفعت بشيء منه قليلا أو كثيرا فقد حنثت، ورأيت ذلك لازما لها لأنها حلفت ألا تقبل منه منفعة فقد انتفعت وإن كان الذي نالت منه الوليدة إنما هو طعام أكلته رأيت ذلك خفيفا.
قال محمد بن أحمد: المسألة صحيحة على أصولهم لا كلام فيها إلا قوله في آخرها وإن كان الذي نالت منه الوليدة إنما هو طعام أكلته رأيت ذلك خفيفا، فمعناه في الطعام اليسير الذي لا ينحط به عنها من مؤنة نفقة خادمها شيء؟ وكذلك قال مالك في أول سماع ابن القاسم من كتاب الأيمان بالطلاق، وهو مفسر لهذا والله أعلم. وإيجابه اليمين عليها إن قبلت ما وهبه إياها لخادمها وادعت أنها لم ترد خادمها صحيح؛ لأنها نية محتملة لا يشهد بصحتها شاهد من ظاهر حال أو دليل لفظ أو عرف مقصد وما أشبه ذلك فتسقط عنها اليمين من أجل ذلك ولا هي أيضا مخالفة لظاهر لفظ اليمين فلا تصدق فيها بيمين ولا بغير يمين؛ لأن ما يدعي الحالف من النية فيما يحكم به عليه إذا لم يأت مستفتيا لا يخرج عن هذه الثلاثة الأقسام، وأما إذا أتى مستفتيا أو كانت يمينه مما لا يحكم بها عليه فينوي فيما نواه دون يمين وإن كانت نيته التي نواها مخالفة لظاهر لفظه وبالله التوفيق.

.مسألة كان مع أخ له في منزله وكانت له شاة فحلف بالمشي إلى مكة ليبيعنها:

ومن كتاب الأقضية:
مسألة وسئل مالك عن رجل كان مع أخ له في منزله وكانت له شاة فحلف بالمشي إلى مكة ليبيعنها وليخرجنها عنه، فباعها وأخرجها عنه ثم باعها المبتاع من آخر والآخر من آخر ثم أراد أن يبيعها بثمن وكس فأراد صاحبها الأول أن يشتريها فخاف أن يدخل على أخيه في يمينه شيء، وألا يكون خرج من يمينه، فقال: لا يشتريها. نعم يدخل عليه يمينه شيء وخاف إن اشتراها ألا يكون أخوه خرج من يمينه.
قال محمد بن رشد: حمل يمينه على أخيه أن يبيع الشاة ويخرجها عنه على أنه إنما أراد ألا تكون معه في داره خلاف ما لفظ به، فرأى عليه الحنث إن ردها بعد أن باعها وأخرجها وتداولتها الأملاك. وقال في رسم تأخير العشاء من سماع ابن القاسم في الذي يحلف على رجل لينتقلن من داره فانتقل أنه لا حنث عليه إن رده إليها بعد أن انتقل عنها إلا أن يكون أراد ألا يساكنه فحمل يمينه على الانتقال الذي لفظ به حتى يريد ترك المساكنة وذلك تعارض بين في الظاهر، وبينهما من جهة المعنى فرق ظاهر، وهو أن يكون الرجل مع الحالف في داره لفظا يختص به وهو السكنى، فلما عدل الحالف إلى الانتقال حملت يمينه إذا لم تكن نية على ما لفظ به من الانتقال لاحتمال أن يكون أراد معاقبته بذلك، وليس لكون الشاة معه في داره لفظ يختص به، فلما لم يكن لذلك لفظ يختص به فعدل عنه إلى ما لفظ به حملت يمينه على أنه إنما أراد ألا تكون الشاة معه في داره إذ لا غرض يظهر في بيعها وإخراجها من داره إلا ذلك والله أعلم.

.مسألة حلف ألا يأخذ لفلان مالا فمات المحلوف عليه:

ومن حلف ألا يدخل على فلان بيتا حياته فدخل عليه ميتا حنث، ولو حلف ألا يأخذ لفلان مالا فمات المحلوف عليه فأخذ الحالف من تركته مالا فإنه لا حنث عليه إلا أن يكون الميت المحلوف عليه أوصى بوصية أو كان عليه دين فإنه حانث بذلك.
قال سحنون: وكذلك حلف ألا يأكل من طعام رجل فمات المحلوف عليه فأكل الحالف من المال قبل أن يجمع ويقسم، فإن كان عليه دين أو أوصى بوصايا فإنه حانث وذلك أن المال للميت إذا كان عليه دين وعنه يقضى، وليس للورثة مراثا إلا بعد قضاء الدين، وكذلك إذا كانت وصايا ولم يكن عليه دين فهو شريك للورثة بوصاياه في الثلث، فإن أكل من ذلك شيئا حنث، وقد قال تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 11]، فإنما يكون للورثة ما بعد الدين قاله أصبغ.
قال محمد بن أحمد: قوله فيمن حلف ألا يدخل على فلان بيتا حياته فدخل عليه ميتا إنه يحنث هو مثل ما لأصبغ في نوازله بعد هذا في من حلف ألا يدخل بيت فلان ما عاش.
وقال سحنون: لا حنث عليه، وجه القول الأول أن قول الحالف حياته أو ما عاش لا يحمل على أنه أراد بذلك أجلا وقته ليمينه؛ لأن الظاهر من إرادته أنه أراد ألا يدخل عليه أبدا، فعبر عن ذلك بحياته أو ما عاش لأن ذلك هو الغاية التي يقصد بها الناس التأبيد في عرف كلامهم، من ذلك قول الرجل: لا أدخل هذه الدار حياتي أو ما عشت أو لا آكل من هذا الطعام حياتي أو ما عشت ولا أكلم فلانا حياته أو ما عاش إذا أراد أنه لا يفعل شيئا من ذلك كله أبدا، ووجه قول سحنون اتباع ظاهر اللفظ دون مراعاة المعنى، فقول مالك أولى بالصواب، ولو قال الرجل: لا أدخل على فلان بيتا أبدا فدخل عليه ميتا حنث إلا أن يريد حياته قولا واحدا على ما في أول رسم الطلاق الأول من سماع أشهب من كتاب الأيمان بالطلاق، وما في سماع أبي زيد منه، وقوله فيمن حلف ألا يأخذ لفلان مالا فمات فأخذ من تركته أنه حانث إن كان أوصى بوصية أو كان عليه دين. قال ابن القاسم في المجموعة وإن لم يكن الدين محيطا به وقد قيل: إنه لا حنث عليه وإن أحاط الدين بتركته، وقاله أشهب وهو الأظهر؛ لأن الميت إذا مات فقد ارتفع ملكه من ماله ووجب لمن يجب له منه أخذه من ورثته وأهل وصاياه وغرمائه إن كان عليه دين، وهذا الاختلاف إنما هو إذا لم يكن للحالف نية ولا كان ليمينه بساط فإن كانت يمين الحالف كراهية للمال لخبث أصله فهو حانث على كل حال كان على الميت دين وله وصية أو لم يكن، وإن كان كراهية لمنه عليه فلا حنث عليه على حال كان على الميت دين أيضا وكانت له وصية أو لم يكن.

.مسألة حلف على صديق له بعتق رقبة إن كلمه حتى يمنع امرأته النفقة:

وقال أشهب: سئل مالك عن رجل حلف على صديق له بعتق رقبة إن كلمه حتى يمنع امرأته النفقة فلا ينفق عليها ما دخلت عليها فلانة وكف عن كلامه فكان الرجل يلقاه ويسلم عليه فلا يرد عَلَيْهِ السَّلَامُ مخافة أن يحنث، فلما أكثر عليه من ذلك عمد إلى أخ له فقال: تعلم أني حلفت على فلان ألا أكلمه حتى يكف عن النفقة على امرأته فلا ينفق عليها ما دخلت عليها فلانة وأنه يلقاني فيسلم علي وإني أخاف أن أرد عليه فأحنث، فقال له الرجل: أنا أكفيكه، ثم إن الرجل زوج المرأة لقي الحالف فسلم عليه فرد عليه فخاف أن يكون قد حنث فذهب إلى ذلك الرجل الذي كان استعان به. فقال له: تعلم أن فلانا لقيني فسلم علي فرددت عليه، إني أخاف أن أكون قد حنثت، فقال له الرجل: لم يحنثك الله قد لقيته قبل أن يلقاك ويسلم عليك فذكرت له ما ذكرت لي فقال لي: إني كنت قد منعتها النفقة قبل ذلك وأنا مجمع على ألا أنفق عليها فيما أستقبل، قال مالك: وما يدريه أن هذا الرجل قد صدقه لعله قد كذبه، أحب إلي أن يعتق رقبة، فقال له السائل: لا والله ولكنه قد صدقه، فقال له مالك: من يضمن له ذلك أنت؟ أحب إلي أن يعتق رقبة لأنه لا يدري لعله قد كذبه والناس يهونون على الناس في مثل هذا من القول فأحب أن يعتق رقبة.
قال محمد بن أحمد: استحب له أن يعتق رقبة لأنه لا يدري هل صدقه الرجل أو كذبه، فدل ذلك من قوله أنه لو استيقن أنه صدقه لم يكن لاستحبابه له العتق وجه، ففي ذلك من قوله. نظر؛ لأنه وإن صدق هو فيما أخبر به عن الرجل فقد يكون الذي أخبره قد كذب فيما أخبره به عن نفسه من أنه قد منع امرأته النفقة وأجمع على ألا ينفق عليها فيما يستقبل، فالاختيار له أن يعتق رقبة إلا أن يستيقن أن الرجل قد منع امرأته النفقة قبل أن رد عَلَيْهِ السَّلَامُ، والذي يستيقن به ذلك شهادة رجلين عدلين بذلك. قال سحنون في كتاب ابنه في نحو هذه المسألة وفي أول رسم الأقضية الثالث من سماع أشهب من كتاب الشهادات في نحو هذه المسألة إنه لا يقبل في ذلك شهادة أربع نسوة، وهو دليل ما في رسم العرية من سماع عيسى بعد هذا من هذا الكتاب، ولو أخبره مخبر عدل قبل أن يكلمه أنه قد منع امرأته النفقة لجاز له أن يكلمه ولا يكون عليه شيء من طريق قبول خبر الواحد لا من طريق الشهادة، فاعرف الفرق في ذلك بين أن يكون الإخبار قبل أن يكلمه، أو بعد أن كلمه؛ لأنه قبل أن يكلمه بمعنى الإخبار وبعد أن كلمه بمعنى الشهادة وبالله التوفيق.

.مسألة قالت له زوجته إيذن لي فحلف ألا يأذن لها حتى يقدم فتأخر أيأذن لها:

ومن كتاب الجنائز والذبائح والنذور:
مسألة قال أشهب: وسئل مالك عمن تجهز يريد العمرة حتى إذا حضر مسيره، قالت له امرأته: إيذن لي إلى المخارج التي كنت أخرجها، فحلف ألا يأذن لها حتى يقدم، فبلغه شدة الحر ومرض رقيق كان يريد المسير بهم فأراد المقام بهم حتى يبرد الزمان ويبرأ رقيقه أله أن يأذن لها؟ فقال: إن كان نوى ألا يأذن لها في غيبته لأنه لا واعظ لها ولا معاتب وخاف كثرة الخروج فهو أخف.
قال محمد بن أحمد: يريد أنه إن نوى ذلك فهو أخف وله أن يأذن لها إن لم تخرج للعلة التي ذكر ولا يكون عليه شيء، وإن لم يكن نوى ذلك فليس له أن يأذن لها إلى مقدار ما كان يرجع إليه من عمرته لو خرج إليها ولم يعقه عن ذلك عائق، فإن أذن لها حنث، وفي سماع أصبغ من كتاب الأيمان بالطلاق في الذي يحلف بالطلاق ألا تدخل امرأته موضعا سماه حتى يقدم من سفر الحج كان أو غيره ثم يبدو له ألا يخرج إن اليمين عليه إلى مقدار رجعته من سفره ولا ينوى في ذلك، فالظاهر أن ذلك خلاف رواية أشهب لأنه لم ينوه، ونواه في رواية أشهب، وعلى الخلاف كان الشيوخ يحملون الروايتين. وليس ذلك بصحيح، والفرق بين المسألتين أن يمين الحالف في رواية أشهب خرجت على سؤال امرأته إياه أن يأذن لها في الخروج في غيبته إلى المخارج التي كانت تخرجها وكان بساط اليمين شاهدا لما ادعاه من أنه أراد ألا يأذن لها في غيبته فوجب أن يصدق في ذلك لاسيما وهو مستفت إذ لم يأذن لها بعد، وإنما سأل هل يحنث إذا أذن لها، ولعل يمينه أيضا مما لا يقضى به عليه، ورواية أصبغ خرجت يمين الحالف فيها ابتداء على غير سبب فلم يصدق فيما ادعى من النية إذ هي مخالفة لظاهر لفظه ولا دليل عليها من بساط ولا غيره، فوجب أن لا يصدق في ذلك لأن يمينه بالطلاق وهو مما يقضي به عليه ولم يأت مستفتيا، وأما لو كانت اليمين مما لا يقضى به عليه أو أتى مستفتيا لنوي على كل حال باتفاق وإن كانت النية التي يدعي مخالفة لظاهر لفظه وبالله التوفيق.

.مسألة اليمين والنذور في الغضب:

وسألته عن اليمين والنذور في الغضب.
فقال: تلزم صاحبها.
قال محمد بن أحمد: لا اختلاف في المذهب في أن النذور واليمين بالطلاق لازمان في الغضب كما يلزم فيه جميع الحدود من القتل والقذف وغير ذلك إذ ليس الغاضب بمجنون فالقلم عنه غير مرفوع، وما روي من أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «لا نذر في غضب وكفارته كفارة يمين» ليس بصحيح من جهة الإسناد ولا من جهة المتن أيضا؛ لأنه إن كان في حكم المجنون فلا ينبغي أن تلزمه كفارة، وإن كان في حكم الصحيح فينبغي أن يلزمه النذر الذي سماه بعينه إن لم تكن معصية، وقد تأول بعض من ذهب إلى أن من نذر معصية فكفارته كفارة يمين إلى أن معنى لا نذر في غضب أي في غضب الله يريد في معصيته، وهو تأويل بعيد، وما روي من أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «لا طلاق ولا إعتاق في إغلاق» معناه عندنا في إكراه؛ لأن الإغلاق هو الإطباق من أغلقت الباب فكأن المكره قصر عن الفعل وأغلق عليه حتى فعله، وقول من قال: إن الإغلاق الغضب لا يصح؛ لأن الطلاق أكثر ما يكون في الغضب، وإلى ذلك نحا البخاري لأنه بوب باب الطلاق في الإغلاق والكره واستشهد بقوله، عَلَيْهِ السَّلَامُ،: «إنما الأعمال بالنيات» وبقول ابن عباس: الطلاق عن وطر، والعتاق ما أريد به وجه الله تعالى.

.مسألة حلف في جارية له بمشي إلى بيت الله ألا يبيعها بثلاثمائة دينار:

قال: وسألته عمن حلف في جارية له بمشي إلى بيت الله ألا يبيعها بثلاثمائة دينار حتى يزاد فباعها بثلاثمائة دينار فسأله ابن عم له بعد أن انتقد الثمن أن يهب له خمسة عشر دينارا بعد أن فرغا من البيع ولم يكن ذلك على شرط ولا موعد، فوهبها له فأعطاها ابن عمه المشتري، فخاف أن يكون قد حنث فقال مالك: والله إني لأخاف ذلك قد علم أنه إنما يعطيه إياها.
قال محمد بن أحمد: وهذا كما قال لأن ما رد إليه من الثمن في المجلس فكأنه لم يبع به ولا قبضه فوجب أن يحنث؛ إذ لا فرق بين أن يردها هو عليه أو يعطيها لمن يعلم أنه يردها عليه وقد مضى بيان هذا في رسم حلف ليرفعن أمرا، ورسم أخذ يشرب خمرا من سماع ابن القاسم ولو لم يعلم أنه يعطيه إياها وظن أنه إنما استوهبه إياها لا ليردها عليه لما كان بذلك حنث ولا يصدق في ذلك إن كانت يمينه مما يقضى عليه به إلا أن يأتي مستفتيا لأن ظاهر الأمر خلاف ما يدعيه.

.مسألة يحلف ويستثني فيقول علمي:

وسئل عن الحالف يحلف ويستثني فيقول علمي، فقال: ذلك له إن شاء الله ما أوجدها إن كان صادقا أن ذلك علمه.
قال محمد بن أحمد: استثناء الرجل علمه إنما يتصور في الماضي فلا يوجب حكمه إلا فيما يكون فيه اللغو من الأيمان لأن من حلف بالله ما دخل فلان أمس الدار وذلك يقينه وعلمه، ثم انكشف أنه قد كان دخلها فلا شيء عليه لأن يمينه لغو. ولو قال: علي المشي إلى بيت الله ما دخل فلان أمس الدار وذلك يقينه وعلمه ثم انكشف له أنه قد كان دخلها وجب عليه المشي إلا أن يكون قد استثنى في يمينه فقال: علي المشي إلى بيت الله ما دخل فلان أمس الدار في علمي فينفعه عليه استثناؤه ولا يكون عليه مشي إن انكشف له أنه قد كان دخلها أمس، وقد وقعت من هذا مسألة في رسم الشجرة تطعم بطنين في السنة من سماع ابن القاسم من كتاب الأيمان بالطلاق وهذا من الاستثناء الذي يكون بغير حرف الاستثناء في شرط اتصاله بالكلام وتحريك اللسان وهو أن يقيد عموم لفظ يمينه بصفة لأن تقييد اللفظ العام بالصفة يخرج منه ما ليس على تلك الصفة فهو بمنزلة أن يستثنيه بإلا أو بسائر حروف الاستثناء، مثال ذلك أن يحلف فيقول: والله لأعطين أخوال فلان درهما درهما فإن لم يعمهم بالإعطاء حنث إلا أن يستثني بعضهم بتقييد صفة مثل أن يقول متصلا بيمينه قبل أن يسكت الصغار ويحرك بذلك لسانه فينفعه استثناؤه ولا يكون عليه أن يعطي الكبار، بمنزلة أن يقول متصلا بيمينه قبل أن يسكت إلا الكبار؛ لأن تقييد لفظ الأحوال بالصغار يخرج منهم الكبار وعلى هذا فقس ما شابهه من هذا النوع وبالله التوفيق.

.مسألة يحلف بالمشي إلى بيت الله ثلاثين حجة إن بات مع أمه:

وسئل عمن يحلف بالمشي إلى بيت الله ثلاثين حجة إن بات مع أمه في قاعة الدار سنة، فقال: أحب إلي ألا يبيت معها في قاعة الدار سنة فما أقرب ذلك، قيل له: إن يبت معها في السطح من بيتها وإنما قال في قاعة الدار؟ قال: يسأل عما أراد.
قال محمد بن أحمد: قوله: أحب إلي ألا يبيت معها في قاعة الدار سنة معناه أحب إلي أن لا يبيت معها في قاعة الدار سنة فيبر من أن يبيت معها فيها فيحنث ويجب عليه المشي فلا يمشي إذ لا يتعلق الاستحباب إلا في المشي إذا حنث، وقال في ذلك: أحب إلي وإن كان واجبا عنده إذ ليس بمتفق على وجوبه وقوله: يسأل عما أراد إن بات معها في سطح بيتها صحيح؛ إذ قد يريد التنحي عن المبيت معها ومجانبة ذلك وإنما قال في قاعة الدار لأن عادته كانت أن يبيت معها فيها فخرجت يمينه على ذلك من غير قصد إليه، وقد يريد ألا يبيت معها في قاعة الدار لمعنى أصابه فيها مما يختص بها من حر أو برد أو ما أشبه ذلك، فإن أراد مجانبة المبيت معها فهو حانث حيثما بات معها، وإن أراد ألا يبيت معها في قاعة الدار فلا شيء عليه إن بات معها بغير قاعتها، وإن لم تكن له نية فله أن يبيت معها في غير قاعة الدار؛ لأن الأيمان إذا عريت عن النيات وعما يدل عليها من بساط أو عرف تحمل على مقتضى ألفاظها.

.مسألة حلفت لزوج ابنتها لئن أنت لم تفعل إلى الليل لا أدخل لك بيتا سنة:

قال: وسئل عن امرأة بعثت إلى زوج ابنتها أن ابعث إلي ابنتي، وحلفت لئن أنت لم تفعل إلى الليل لا أدخل لك بيتا سنة، فذهب الرسول ولم يجده فغاب حتى الليل ثم جاء فأخبر وقال: لم أعلم، ولو جاءني الرسول لم أمنعها فأطرق فيها ثم قال: ذهبت فوجدته قد مات، ذهب إلى السوق قد سافر قد ذهب إلى العقيق، كنت أرى في مثل هذا أن تدين، يقول: لم أرد أن أجده قد مات إنما أردت التغليظ عليه لئلا يمنعني، ولم أرد أن أجده قد سافر وغاب، ومثل ذلك أن يرسل الرجل إلى أخ له إن لم تأتني الآن فعلي كذا وكذا، فيجده الرسول قد مات أو غاب أو سجن.
قال محمد بن رشد: إذا كانت نيتها ذلك فهو بين أن لا شيء عليها، وإن لم تكن لها نية فيمينها محمولة على ذلك أيضا؛ لأنه المعنى المفهوم من قصدها بيمينها فلا شيء عليها إلا أن تكون أرادت ألا تدخل له بيتا إن لم يرسل إليها ابنتها ذلك اليوم إلى الليل وصل إليه رسولها بذلك أو لم يصل وجد أو لم يوجد وبالله التوفيق.